العجز المالي الأميركي يستعصي على الانكماش

العجز المالي الأميركي يستعصي على الانكماش: 1.8 تريليون دولار رهان ثابت رغم قفزة تاريخية في إيرادات الرسوم
العجز المالي الأميركي يستعصي على الانكماش: 1.8 تريليون دولار رهان ثابت رغم قفزة تاريخية في إيرادات الرسوم

كشفت التقديرات الأولية الصادرة عن مكتب الميزانية في الكونغرس (CBO) أن العجز المالي للحكومة الفيدرالية في الولايات المتحدة سجل 1.8 تريليون دولار للسنة المالية 2025. هذا الرقم. الذي جاء دون تغيير يذكر عن المستوى المسجل في العام السابق 2024. يثير تساؤلات جدية حول قدرة واشنطن على احتواء التوسع المستمر في الفجوة بين الإيرادات والإنفاق. لا سيما في ظل طفرة غير متوقعة في إيرادات الرسوم الجمركية.

العجز المالي الأميركي يستعصي على الانكماش

أشار المكتب غير الحزبي في بيان أصدره اليوم الأربعاء إلى أن العجز للعام المنتهي في 31 سبتمبر تقلص بنحو 8 مليارات دولار فقط عن مستوى العام 2024. ويؤكد هذا التقلص الهامشي حالة الجمود المالي التي تواجهها الإدارة الفيدرالية. حيث أن الزيادة الكبيرة في الإيرادات العامة لم تكن كافية لامتصاص التوسع المضطرد في نفقات الحكومة.

ارتفاع الإيرادات في مواجهة الإنفاق المتزايد

بالنظر إلى التفاصيل، توضح تقديرات مكتب الميزانية لمحة عن وضع مالي يعتبره الاقتصاديون مقلقًا. رغم قوة التوسع الاقتصادي الظاهر. أشار المكتب إلى أن الإيرادات الفيدرالية شهدت نموًا ملحوظًا. حيث ارتفعت بمقدار 308 مليارات دولار. وهو ما يمثل زيادة بنسبة 6% مقارنة بالسنة المالية الماضية. نقلًا عن موقع “الشرق بلومبرج“.

يعكس هذا النمو الإيجابي في الإيرادات عدة عوامل، أبرزها قوة سوق العمل الأميركي. ما أدى إلى ارتفاع عائدات ضرائب الدخل. إضافة إلى التحصيل المباشر لـ الرسوم الجمركية المفروضة على الواردات.

ومع ذلك، واجه هذا الارتفاع في الإيرادات زيادة مماثلة تقريبًا في الإنفاق الحكومي. فقد زاد الإنفاق الفيدرالي بنحو 301 مليار دولار. أي بنسبة 4%. ويعزى هذا التوسع في الإنفاق إلى مجموعة من البنود التي تشكل عبئا متزايدًا على الميزانية.

يأتي على رأس هذه البنود مدفوعات الفائدة على الدين العام. إذ تجاوزت هذه المدفوعات للمرة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة حاجز التريليون دولار. ويعود هذا الارتفاع الصارخ في تكلفة خدمة الدين إلى ارتفاع معدلات الفائدة التي يتبناها الاحتياطي الفيدرالي لمكافحة التضخم. ما يرفع تكلفة اقتراض الحكومة لتمويل عجزها. كل نقطة زيادة في أسعار الفائدة تترجم إلى عشرات المليارات من الدولارات إضافية تخرج من الميزانية الفيدرالية لصالح الدائنين.

الرسوم الجمركية “شاحنة” دعم الميزانية

يشكل الارتفاع الصارخ في عائدات الرسوم الجمركية القصة الأكثر دراماتيكية في تقرير مكتب الميزانية لعام 2025. وقدرت الوكالة أن الرسوم الجمركية وحدها حققت 195 مليار دولار من العائدات خلال السنة المالية 2025. ويعد هذا الرقم قفزة نوعية وكمية. خاصة عند مقارنته بعائدات العام السابق التي بلغت 77 مليار دولار فقط.

هذا الارتفاع الهائل، الذي يمثل زيادة تتجاوز 150% في عام واحد. يعزى بشكل مباشر إلى زيادات الرسوم الجمركية التي فرضت خلال فترة رئاسة دونالد ترمب على الواردات. لا سيما من الصين. ورغم أن هذه التعريفات الجمركية غالبًا ما تثير جدلاً حول آثارها على المستهلكين الأميركيين والتضخم. إلا أن الأرقام تثبت أنها أصبحت مصدراً كبيراً ومفاجئًا لدعم الميزانية الفيدرالية.

ومع أن هذا الدعم النقدي البالغ 195 مليار دولار كان ضخمًا، فإنه لم يكن كافياً لتحريك العجز الكلي بشكل كبير. ما يشير إلى أن عوامل أخرى. وعلى رأسها تكلفة خدمة الدين وبرامج الإنفاق الإلزامي الأخرى. تلتهم هذه المكاسب بسرعة.

تأثير الإغلاق الحكومي

في سياق متصل، أشار التقرير إلى أن الأرقام الرسمية النهائية للسنة المالية 2025 قد تتأخر عن موعدها المعتاد. ففي حين تصدر وزارة الخزانة عادة الأرقام الرسمية الشهرية والسنوية للميزانية. فإن موعد نشر بيانات شهر سبتمبر، والنتائج النهائية لعام 2025، قد يتأثر بالإغلاق الحكومي الحالي.

امتنعت متحدثة باسم الوزارة عن التعليق على موعد الإصدار الرسمي للبيانات، ما يترك حالة من الغموض في الأوساط المالية. وعلى الرغم من أن تقديرات مكتب الميزانية في الكونغرس تعد مصدراً موثوقاً وغير حزبي، إلا أن الأرقام الرسمية لوزارة الخزانة هي التي يتم الاعتماد عليها في التحليلات والسياسات العامة. ويثير هذا التأخير المحتمل قلق الاقتصاديين الذين يعتمدون على البيانات الدقيقة والموقوتة لتقييم صحة الاقتصاد الأميركي.

دلالات العجز الثابت

يبعث استقرار العجز عند 1.8 تريليون دولار برسالة واضحة حول التحديات الهيكلية العميقة التي تواجه المالية العامة الأميركية. ففي ظل النمو الاقتصادي وارتفاع إيرادات الضرائب والرسوم، كان من المتوقع أن ينخفض العجز بشكل ملحوظ. لكن الثبات عند هذا المستوى يشير إلى أن الزيادة في الإنفاق الإلزامي، وخاصة الفوائد، تشكل ضغطاً دائماً على الميزانية.

يعتبر الاقتصاديون أن الحفاظ على عجز بمثل هذا الحجم، حتى في فترات التوسع الاقتصادي، أمر مقلق. فعادة، في مثل هذه الفترات، يجب أن يتقلص العجز كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، ما يتيح للحكومة حيزًا ماليًا للتدخل في حال حدوث تباطؤ اقتصادي أو ركود مستقبلي.

كما أن تجاوز مدفوعات الفائدة حاجز التريليون دولار هو مؤشر تحذيري خطير. إذ تتجه حصة متزايدة من الإيرادات الفيدرالية نحو سداد الديون بدلًا من الاستثمار في البنية التحتية، أو التعليم، أو الرعاية الصحية، أو البحث والتطوير، ما يهدد قدرة الولايات المتحدة التنافسية على المدى الطويل. يشير العديد من الخبراء إلى أن هذا المسار المالي غير مستدام، ويتطلب اتخاذ قرارات صعبة حول خفض الإنفاق وزيادة الإيرادات في المستقبل القريب.

نظرة مستقبلية

يمثل تقرير مكتب الميزانية في الكونغرس عن السنة المالية 2025 دليلاً على أن الولايات المتحدة لا تزال تكافح للسيطرة على عجزها المتفاقم. ورغم النجاح في زيادة الإيرادات بنسبة 6% وتحقيق عائدات جمركية قياسية بلغت 195 مليار دولار، فإن زيادة الإنفاق بنسبة 4%، مدفوعة بارتفاع غير مسبوق في مدفوعات الفائدة على الدين إلى ما يزيد عن 1 تريليون دولار، أدى إلى استقرار العجز عند مستوى 1.8 تريليون دولار.

كما يشير هذا الجمود المالي إلى أن التحدي ليس في جمع الأموال، بل في إدارة النفقات الهيكلية المتزايدة. ومع استمرار ارتفاع أسعار الفائدة عالميًا، يبدو أن عبء الدين الأميركي لن يتراجع قريبًا، ما يضع ضغطًا ماليًا هائلاً على الأجيال القادمة ويستوجب مراجعة فورية وموضوعية للسياسات المالية الفيدرالية.