للحديث عن مرونة وصمود الموانئ البحرية والقدرة على استيعاب المشكلات والأزمات، ينبغي أن نؤصل كلمة Resilience أو Resilire باللغة اللاتينية، وتعني العودة السريعة إلى الوضع السابق أو الارتداد، وهي كمفهوم تشير إلى قدرة كيان أو نظام على التعافي من الاضطراب أو التداعيات الناجمة عن مشكلات معينة بمرونة عالية.
وهنا يمكن الإشارة إلى:
- المرونة الهندسية (العلوم الفيزيائية) تشير إلى قدرة النظام على العودة أو استئناف حالة التوازن المفترضة بعد الصدمة أو الاضطراب، وينصب التركيز هنا على مقاومة الصدمات والاستقرار بالقرب من التوازن.
- المرونة البيئية (العلوم البيئية) حجم الصدمة أو الاضطراب الذي يمكن أن يستوعبه النظام قبل أن يعود إلى حالة أو تكوين آخر مستقر.
- المرونة التكيفية (نظرية النظم التكيفية) تشير إلى قدرة النظام على الخضوع لإعادة تنظيم استباقية أو رجوع للشكل والوظيفة لتقليل تأثير الصدمة المزعزعة للاستقرار.
قـدرة الموانئ البحرية على توقع المواقف
في هذا الإطار يشير مفهوم Port Resilience إلى قـدرة الموانئ البحرية على توقع المواقف المتغيرة واستيعابها عند حدوثها والاستجابة لها. بالإضافة إلى التعافي من تداعيات المشكلات والاضطرابات والأزمات، والحفاظ على قدرتها على القيام بعمليات استقبال السفن وتداول البضائع والنقليات والقيام بالأنشطة والأعمال المختلفة للموانئ، وهو بذلك مفهوم يمكن صياغته بمسمى مرونة الموانئ.
وفي مجال تشغيل وإدارة الموانئ البحرية يمكن أن تنجم المشكلات أو الاضطرابات عن مجموعة متنوعة من العوامل؛ بعضها عرضي أو مفاجئ، مثل: تعطل المعدات أو توقفها بسبب سوء الصيانة.
كما يمكن أن يتأثر الميناء بسبب أحداث خارجة عن سلطة الميناء، مثل الزلازل والظروف الجوية العاتية، حيث يمكن أن تؤدي العواصف الثلجية والرعدية والرياح القوية إلى تعطيل عمليات الرافعة وربما انهيار رصات الحاويات.
إن مخاطر الأعاصير تبرز في منطقة مثل البحر الكارييبي؛ حيث تميل الخطوط الملاحية إلى تقديم عدد أقل من الرحلات البحرية خلال موسم الأعاصير الذي يقع بين أغسطس ونوفمبر مع ذروة نشاط الإعصار في سبتمبر.
ونظرًا لأنه لا يمكن التنبؤ بدقة بمسار الإعصار إلا في غضون يوم أو يومين من حدوثه، فلا يتم إلغاء الرحلات البحرية أثناء الإعصار، بل يمكن فقط تغيير تسلسل التردد على الموانئ لاستيعاب البدائل غير المعرضة للخطر، أو التحول لميناء آخر.
أيضًا عن الزلازل والتي يصعب التنبؤ بها، يوجد حوالي 100 ميناء حاويات تمثل 140 مليون حاوية مكافئة في مناطق تعد مناطق زلزالية نشطة، وتشير الدراسات إلى وجود خطر بنسبة 20 % للتعرض لمخاطر حدوث الزلازل المؤثرة في أعمال تلك الموانئ.
وعندما وقع زلزال كوبي عام 1995 اضطر الميناء إلى الإغلاق، واستغرقت الإصلاحات حوالي عامين. ونظرًا لأن اليابان بلد تجاري ذو أهمية عالمية كبرى، فقد تم العمل على ايجاد بدائل لضمان استمرارية التجارة الخارجية اليابانية المنقولة بحرًا من خلال الموانئ البديلة.
مشكلات ناتجة عن الأخطاء البشرية
كذلك فإن هناك مشكلات ناتجة عن الأخطاء البشرية، ففي العديد من المرات تسببت أخطاء مناورة السفن بالموانئ عن أضرار بالأرصفة والرافعات؛ ما أدى إلى توقف العمليات والحاجة إلى إصلاحات مكلفة. كما يمكن أن يؤدي وقوع حادث تصادم/ غرق سفينة في مدخل الميناء إلى إغلاق الميناء كليًا أو جزئيًا.
من ناحية أخرى، يمكن أن تلحق كارثة كيميائية واسعة النطاق أضرار بجزء كبير من الميناء. ما قد يتسبب في خسائر بشرية وعرقلة أو تعطيل أنشطة الميناء بشدة لمدة طويلة من الزمن. وعليه فيجب أن تمتثل منشآت الميناء لأعلى معايير السلامة الإقليمية والدولية، فيما يتعلق بالوقاية من الحرائق، ومكافحة الحرائق، والسلامة الصناعية والبيئية. كما يجب التأكد من وجود خطط وطنية أو إقليمية واسعة لإدارة الكوارث.
إن حادث انفجار كمية ضخمة من نترات الأمونيوم في ميناء بيروت في أغسطس 2020. يعد واحدًا من أكبر التفجيرات غير النووية في التاريخ. وقد أسفر عن تدمير معظم منشآت الميناء وجانب كبير من المدينة، وحدث كنتيجة لسوء الإدارة والفساد.
من جهة أخرى يمكن أن تؤدي الإضرابات واسعة النطاق الناجمة عن النزاعات العمالية إلى إعاقة عمليات الموانئ وتشغيل المحطات. وعلى سبيل المثال كانت إضرابات الموانئ الأمريكية عام 2002 والتي شملت 29 ميناء على ساحل المحيط الهادئ، آثار سلبية كبيرة في النقل البحري عبر المحيط الهادئ،
وكانت أحد أسباب السعي لتطوير قناة بنما؛ لتسهيل وصول السفن العملاقة إلى موانئ الساحل الشرقي لأمريكا الشمالية.
الصراعات العسكرية والحروب وأعمال الموانئ
وبالإضافة إلى الأسباب السابق ذكرها. فإن الصراعات العسكرية والحروب لها أيضًا تأثير سلبي كبير في أعمال الموانئ. حيث يمكن أن تتعرض البنية التحتية للموانئ البحرية للضرر والتدمير. كما يمكن للقيود الاقتصادية الناجمة عن الصراعات السياسية والنزاعات تأثير سلبي في أنشطة الموانئ بالدول المتعرضة للعقوبات وموانئ شركائها التجاريين. والمثال القريب على ذلك هو تداعيات الأزمة الروسية الأوكرانية.
يضاف إلى مجموعة المخاطر والعوامل السابقة، مخاطر الأمن السيبراني في الموانئ البحرية، ففي يوليو 2021 تسبب هجوم سيبراني على شبكات الموانئ في عدد من الدول الأفريقية الإفريقية في أزمة إمدادات غذائية خطيرة وتأثر سلبي خطير لأعمال الموانئ.
إن السياسة الأفضل في هذا الشأن، تقوم على الاستعداد الدائم. ووضع خطط وبدائل للطوارئ والأحداث المفاجئة. وإعداد المعدات والمكونات والمواد لإصلاح البنية التحتية أو الفوقية المدمرةز وتحديد الأفراد لإدارة المحطة وإصلاح الأساسات والمرافق المتضرر. ومن جهة أخرى حتمية تطبيق إجراءات السلامة والإجراءات الوقائية وتطبيق قواعد التعامل مع المواد الخطرة بصرامة.
مرونة الموانئ وتحسين قدرتها على الاستجابة
وتتطلب عملية تعزيز مرونة الموانئ وتحسين قدرتها على الاستجابة إلى سياسات تخفف من حدة الاضطرابات أو تسرع العودة إلى الرواج والتنشيط. مثل: تحسين قدرة البنية التحتية للموانئ للأخطار الطبيعية مثل الزلازل والأعاصير.
وكذلك مخاطر الحوادث والتعامل مع المواد الخطرة، ومرونة تحويل حركة المرور نتيجة إغلاق إحدى المحطات أو الأرصفة لأي سبب. الأمر الذي قد يتطلب استخدام محطات أو أرصفة بديلة داخل الميناء.
كما قد يتطلب الأمر في بعض الأحيان نقل المرافق الطرفية إلى مناطق منخفضة المخاطر. ويمكن أن يحدث ذلك عندما تتضرر محطة طرفية تضررًا شديدًا تصبح معه الإصلاحات غير مجدية اقتصاديًا، ويصبح الإغلاق هو الخيار الوحيد. وعنئذ يتعين اختيار موقع جديد يكون أكثر مرونة وأقل عرضة للانقطاعات والتعطلات.
استخلاص الدروس من المشكلات والأزمات السابقة
ونظرًا لأن الموانئ البحرية يمكن أن تتعرض لمجموعة واسعة من المشكلات والأزمات. فيتعين أن تكون لديها القدرة على استخلاص دروس المشكلات والأزمات السابقة، والاستعداد لها مستقبلًا بشكل أكثر استباقية. بحيث يمكن توقعها والتعامل معها والتخفيف من حدتها.
وفي هذا الإطار تبرز ثلاثة أنواع من القدرات:
- القدرة الاستيعابية: وتشير إلى القدرة على استيعاب الانقطاع مع الحفاظ على مستوى الخدمة.
- القدرة التكيفية: وتشير إلى القدرة على توجيه السفن والبضائع أثناء الانقطاع من أجل الحفاظ على مستوى الخدمة.
- القدرة التصالحية: وتشير إلى القدرة على التعافي إلى مستوى خدمة مشابه أو أعلى من خط الأساس قبل الانقطاع.
وهكذا تصبح مسألة مرونة وصمود الموانئ البحرية. وقدرتها على استيعاب الأزمات والمشكلات مسألة شديدة الأهمية، في عالم اليوم المتخم بالأزمات والمشكلات. وعالم النقل البحري الذي تسوده في كل يوم التغيرات والتطورات.
د/ أيمن النحراوي
أستاذ ومستشار إقتصاديات النقل البحري واللوجيستيات
expert.ayman1000@gmail.com