محمد فؤاد يكتب : خريطة العالم بعد انتهاء أزمة الملاحة في البحر الأحمر

محمد فــؤاد

الخبير الدولي في إدارة اللوجستيات وسلاسل الإمداد

قبل البدأ في قراءة المقال أعلم بأن هناك بعض النقاط قد يراها البعض بأنها درب من الخيال او ليست واقعية والبعض قد يراها مُستحيلة ، ولكن دعونا نتفق ان ما نحن علية الان من وسائل العلم والمعرفة والتكنولوجيا هي بمثابة مُعجزات الأمس ، أيضاً لطالما كانت الأزمات هي الباعث الأول للاكتشافات والاختراعات العظيمة والمُحفِز الأول للبدائل على مر الأزمنة.

أزمة طاحنة يشهدها العالم كله وتعصف بالعديد من الموانئ المُطلة على البحر الأحمر ، أزمة اختلفت تماماً عن سابقتها ذلك لأننا وبعد قُرابة الستين يوم على بدأ هذه الأحداث لم نستطع حتى التنبؤ بموعد انتهاء أزمة الملاحة بالبحر الأحمر مُقارنة على سبيل المثال بأزمة السفينة إيفير جيفين عندما علِقت بقناة السويس وما شاهدناه من سرعة الاستجابة للتعامل مع الأزمة وحلها في زمن قياسي بمعرفة الحكومة المصرية وبسواعد أبنائها المُخلِصِين.

الاقتصاد العالمي الذى ما زال يُعانى من جائحة كرونا والاضطرابات الجيوسياسية للصراع بين روسيا واوكرانيا ما احدث توترات هائلة على مستوى سلاسل الإمداد واللوجستيات العالمية ، ها نحن بصَدد أزمة جديدة باختناقات قوية ومُؤثرة على الجوانب الاقتصادية والصناعية والتجارية

مشكلات كبيرة تعصِف بكُبرى الشركات في اسيا و اوروبا والشرق الأوسط والعديد من الدول، مشاكل تتعلق بتأخير الإنتاج وأخرى بسبب تغيير مسار سُفن الشحن للبضائع والحاويات ما أدى لزيادة مدة الشحن لعشرين يوماً او ما يزيد وما ترتب على ذلك من زيادة استهلاك الوقود وارتفاع تكلفة التأمين على السفن ، ما تسبب في زيادة تكلفة الشحن بنسبة تجاوزت 25%

الحل ليس الطلاق

قناة السويس والتي تستحوذ على 15% تقريباً  من إجمالي حركة الشحن البحري العالمي شاهدنا كيف تأثرت وكذلك مضيق باب المندب وهو مدخل البحر الأحمر من الجنوب ويقع بين اليمن وجيبوتي وإريتريا على الساحل الأفريقي ، وهو أحد أهم مسارات الشحن في العالم وخاصة الحاويات والبضائع والنفط الخام والوقود من الخليج المتجه إلى البحر المتوسط عبر قناة السويس أو خط أنابيب سوميد على الساحل المصري بالبحر الأحمر، بالإضافة إلى السلع المتجهة إلى آسيا، بما في ذلك النفط الروسي، فلم يكن الأمر بمثل هذا التعقيدات وهذا ما شهدناه من إعلان كُبرى شركات النقل العالمية والخطوط الملاحية لتجنب الملاحة بالبحر الأحمر وتغيير المسار عُبوراً بطريق رأس الرجاء الصالح كبديل لقناة السويس ، معلنة انفصالها عن ما كان مُعتاد لعلاقة تجارية دامت لأكثر من مائة وخمسون عام منذ إفتتاح القناة للملاحة العالمية 17 نوفمبر 1869 ، ولكن هذا الانفصال المؤقت يُصاحبه خسائر كبيرة وأثار سلبية خطيرة على الصعيد العالمي في شتى الجوانب الاقتصادية والتجارية والصناعية ما لا تتحمله الدول ولا تطيقه الشعوب.

ماذا بعد انقضاء الأزمة

ولكنى لم أكتب هذه المقالة اليوم لسرد الأزمة ومناقشة تبعيات الأزمة فقد قام بهذا العديد من الباحثين وقد اطلعنا على الكثير من الدراسات لمناقشة هذا الشأن، لكن ما اطرحه اليوم هو شكل الخريطة العالمية الملاحية والصناعية والتجارية المُترقب بعد انقضاء هذه الأزمة وإن طالت مدتها فلابد وأن تزول ،

ولكن هل تعتقد صديقي القارئ بأن العالم سيترك هذه الأزمة تمُر مرور الكرام، الن يكون للدول الصناعية والتجارية من خطط  وأطروحات وبدائل لتجنب مثل أثار هذه الأزمات والحد من أخطارها والتي من شأنها تهديد مباشر لاقتصادها وخطط النمو وما يترتب على ذلك من أثار سلبية على أسواقها ومواطنيها

وقبل أن ننطلق في عرض التوقعات المستقبلية والمتوقع حدوثها، دعني أذكرك مرة أخرى بأن الأزمات الاستثنائية تتطلب حلول استثنائية غير معهوده وإن لم تتوافق مع ما يعرفه العقل اليوم ويقبل به

أولاً: تزاوج المصانع والموانئ

أتوقع خروج الدول الصناعية من حدود التصنيع بداخل أراضيها للتوسع بالاستثمارات الخارجية وتشييد العديد من المصانع بالعديد من الدول المطلة على البحر الأحمر ، بل سيكون من الأفضل لها إنشاء هذه المصانع بداخل الموانئ أو أقرب نطاق لها ، إلا ان هذا الاختيار سيتوقف على مدى جاهزية هذه الدول على استقبال مثل هذه الإستثمارات من بيئة تشريعية جاذبة للاستثمارات وعوامل جذب من شبكة طرق ومصادر الطاقة وسلاسل الإمداد والأيدي العاملة الماهرة

ثانياً: المخازن الذكية

خروج الدول المُصنعة من حدود أراضيها سيتطلب إنشاء العديد من المخازن الضخمة الغير تقليدية والضامنة لاستمرار وكفاءة سلاسل الإمداد حتى في ظل حالات الطوارئ والأزمات، مثال على ذلك بناء  المخازن الذكية بنموذج BOXBAY  وما سيُحدثة من قفزة هائلة في قطاع تخزين الحاويات وسهولة تداولها .وهنا تتضح اهمية جاهزية الدول النامية لإستقبال وجذب مثل هذه الإستثمارات بمرونة التشريعات بها ودعم منظومة الاستثمار بنظام المناطق الحرة واللوجستيات وما ستقدمه هذه الدول للشركات والمُصنعين من أسواق وشبكات نقل مفتوحة وحرية التبادل التجاري.

إلا إنني أرى الفرصة قد تكون أكبر عند الدول ذات الكثافة السُكانية الكبيرة لضخامة أسواقها وزيادة القوة الشرائية بها وتوافر الأيدي العاملة، ولذا فمن رحم الأزمات تُولد الفُرص

ثالثاُ: أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلقت

الجمل سفينة الصحراء ، احد اهم وسائل النقل قديماً ، لكن أنظر مع الأمر الإلهى لتدبر خلق الجمال كانت الحكمة في تطوير هذه الوسيلة ايضاً لشق الصحارى والطرق واستبدالها بشبكات السكك الحديدية العملاقة ، وهنا وقفة هامة فإن المُتدبِر حالياً لهذه الوسيلة يعي تماما عدم قدرتها لمنافسة النقل البحري والقادر على نقل الالاف من الأطنان والحمولات ، إلا اننى لا أستبعد تطوير شبكة السكك الحديدية والقطارات لمُضاعفة وزيادة حُمولاتها بشكل كبير وقد نُشاهد اسطول قطارات مُختلف تماماً ليس فقط من حيث السرعة ولكن من حيث الطاقة الاستيعابية ولما لا فالعلم الحديث وما وصلت له علوم الهندسة والتكنولوجيا في تطوير أوناش الموانئ والروافع قادرة ان نشاهد قطارات ذات تصميم مختلف كلياَ ، وقد شاهدنا قطارات الهايبرلوب لنقل المسافرين في كبسولات لتنقلهم عبر أنابيب منخفضة الضغط وفارغة من الهواء، فتندفع الكبسولات على وسادة هوائية غير ملامسة لجدران الأنبوب بفضل الحقل المغناطيسي الموجود بينهما والموُّلَد بواسطة مولدات كهربائية و دولة الإمارات العربية الشقيقة من أولى الدول التي سعت لتنفيذه بالتعاون مع شركة فيرجن هايبرلوب العالمية ، الذي يصل سرعته إلى 1200 كم/ساعة، بهدف وصول المسافر من دبي إلى أبوظبي في مدة تقارب 12 دقيقة فقط، بالرغم من أن المسافة بين دبي وأبوظبي تصل إلى حوالي 140 كيلومترًا، وتحتاج إلى أكثر من ساعة بواسطة السيارة. والان تخيل معى نقل بضاعة من مُحافظة الإسكندرية للقاهرة خلال 20 دقيقة بالقطار.

وهنا يحضُرُني ما قام به السلطان محمد الفاتح 1453م من تسيير السفن على البر والجبال من مرساها في بشكطاش إلى القرن الذهبي ما لم يتوقعه احد على الإطلاق ولكن الشاهد من الأمر اننا قد نشاهد شبكة سكك حديدية وقطارات غير معهودة في المستقبل القريب.

سؤال الإمتحان المُكرر : هل ستتأثر قناة السويس بالتغيرات المستقبلية لشبكة السكك الحديدة؟

الإجابة تبدأ من ضرورة تصحيح السؤال، بداية لن تتنافس سيارة ليموزين تستطيع نقل عدد محدود من الركاب لا يتجاوز عدد أصابع اليد مع قطار نقل الركاب، ولكن المنافسة ستكون بتقديم خدمات أخرى كالسرعة والوصول الى باب المنزل وإمكانية الانتظار وحرية التنقل بين الشوارع وهذا سيقابله مقابل مادى اكبر وربحية لسيارة الليموزين.

وهنا إجابة السؤال من حيث ضرورة تطوير الخدمات وعوامل الجذب الاستثماري بقناة السويس من حيث تعظيم الاستفادة من الفرص الاستثمارية بالقناة وفى الأراضي والمدن المحيطة بها وليس فقط خدمات العبور مع الجاهزية الدائمة لجذب الفرص التجارية والصناعية وتشجيع توافر الخدمات المميزة مع وجود اتفاقيات إستراتيجية مع الخطوط الملاحية وشركات النقل البحري لتطوير الخدمات اللوجستية والوصول للمستهلك النهائي بشكل اسرع ومباشر.

رابعاً: النقل النهرى

يوجد بعض المُعوقات لاستخدام النقل النهري في القارة السمراء ، أهمها قلة سقوط الأمطار شتاءً وتذبذب منسوب المياه  ووجود العديد من الشلالات والجنادل ، إلا ان هناك بعض الدول قد استثمرت وجود بعض الانهار للملاحة النهرية الداخلية في الاجزاء الوسطى والشرقية من القارة بشكل محدود نتيجة ارتباط تلك الانهار بالموانئ المطلة على المحيط الاطلسي والهندي وهذا يؤكد على ضرورة تطوير هذه الفرصة ، خاصة نهر النيل العظيم البالغ طوله 6680 كم،  و من يدرى بعد تطوير شبكات وطرق النقل المختلفة من إمكانية تطوير هذه الشبكة ايضاً ودمجها مع خطوط النقل البرى والسكك الحديدية وقد سمعنا جميعا بمشروع القاهره –  كيب تاون للربط بين شمال افريقيا وجنوبها ويربط 10 دول افريقية ومن المقرر تنفيذة بنهاية عام 2024 للمساهمة في اختصار المدة الزمنية بين شمال وجنوب افريقيا بمتوسط خمسة أيام .

خامساً: التأمين العسكري للملاحة في البحر الأحمر

فبعد انا شاهدنا السفن التجارية تعبر في ظل الفرقاطات الحربية للحصول على التأمين فلذا نتوقع ظهور اتفاقيات بحرية جديدة تهدف إلى زيادة التأمين والحماية للملاحة بالبحر الأحمر وقد نشاهد تزويد السفن التجارية بمنظومة حماية أيضا وتطوير اليات الاستغاثة وطلب المساعدة ،كذلك الحفاظ على سرية المعلومات الخاصة بالسفن وشحناتها ، كل ذلك سيكون قيد المراجعة والتطوير ، وهناك من شركات الاتصالات وتكنولوجيا الذكاء الصناعي من تعمل جاهدة للفوز بهذه الفرص الاستثمارية لعرض منتجاتها وخدماتها وذلك ايضاً يشمل تأمين وحماية خطوط انابيب نقل النفط الخام والغاز الطبيعي والمواد الكيميائية

سادساً: صناعة السيارات وموبايل نوكيا

صناعة السيارات احد أكبر الصناعات في العالم واهم مصادر تشغيل العمالة. الصين ما زالت أكبر دولة مُصنّعة للسيارات في العالم منذ عام 2009. حيث يشكل الإنتاج السنوي للسيارات أكثر من 32% من إجمالي السيارات المُنتجة في العالم. ويُعد قطاع السيارات ركيزة أساسية للاقتصاد الياباني و يضم 78 مصنعًا في 22 محافظة ويعمل فيه أكثر من 5.5 مليون شخص. وفي كوريا الجنوبية العلامات التجارية الكبيرة هيونداى وكيا وطبعاً عملاق الصناعة الاوربية فألمانيا أكبر منتج للسيارات الأكثر شهرة في العالم.

وارى ان إستراتيجية تنمية صناعة السيارات في مصر والشرق الأوسط ستختلف بشكل كبير من خلال تحفيز شركات صناعة السيارات ومستلزمات الإنتاج للتوسع في هذه الصناعة مع تقديم الحوافز والتسهيلات ، وتقديم المزايا مثل الإعفاء من دفع الرسوم الجمركية على قطع الغيار والإعفاء من دفع الضرائب وتقديم أراض مجانا لإقامة المصانع والسماح للمستثمر الأجنبي بإخراج الأرباح المالية إلى بلده الأصلي بكل حرية، دولة

 المغرب من افضل الأمثلة لهذه التجربة

ونصيحتي الأولى والأهم ضرورة توفير عوامل جذب لصناعة السيارات الكهربائية ، العالم سيشهد طفرة قوية وسريعة جدا في التحول للسيارات الكهربائية لما لها من مميزات اقتصادية خاصة بالتشغيل والصيانة ، فهي لا تحتاج وقود وزيوت وقطع غيار محدودة ومصاريف صيانة بسيطة وذلك مع الفارق الكبير في الأداء ، وهنا من يتذكر موبايل نوكيا ومقارنته مع موبايلات الجيل الحديث سيفهم الفارق ، فالعالم أجمع مُقبل على تغيير سياراته.

“ماذا لو وفرت الدولة المصرية أراضي للمُصنعيين وبإعفاءات مدروسة لمدة عشرين عام لجذب هذه الصناعة”

رسالة من فوق الماء

وجود تخطيط جيد لاستثمار ما بعد الأزمات والاستفادة من الفرص الجديدة وخلق استثمارات  بديلة هو ما تَحتَرِفه الدول الكبرى وتستطيع رؤيته وسط الأزمات الكبيرة ، وان لم يكن باستطاعة الدول النامية تبنى مثل هذه الفرص نظراً للظروف الاقتصادية او ما شابه ذلك فالأولى هنا هو إتاحة تحقيق هذه الفُرص على أراضيها من خلال رؤية شاملة وفعاله لدفع الإستثمارات وتوفير الجذب الحقيقي بداية من استثمار الموقع الجغرافي والموارد الطبيعة والبشرية والأسواق المحلية الكبيرة وتكوين فريق عمل كفُؤ لإدارة هذه المرحلة وتذليل العقبات والروتين وتوفير التشريعات المواكبة للحداثة والحوكمه ذلك كى لا تغرق في اثار هذه الأزمات.