د.أيمن النحراوي يكتب: المنفذ البحري الإثيوبي … ومنطقة القرن الأفريقي

د. أيمن النحـــراوي

أستاذ ومستشار الإقتصاد الدولي واللوجيستيات

لا شك أن تحول إثيوبيا إلى دولة داخلية حبيسة بعد استقلال إريتريا عنها وفقدانها لسواحلها المطلة على البحر الأحمر ومن ضمنها مينائي مصوع وعصب، هذا التحول لايتفق مع الرؤية الإثيوبية التي تعتبر نفسها القطب الإقليمي الأكبر في شرق أفريقيا ومنطقة القرن الأفريقي، باعتبارها مجالها الحيوي ونطاق نفوذها ومخططاتها، وهي في ذات الوقت تدرك أنها منذ تحولها لدولة حبيسة منذ ثلاث عقود، فإنها تفقد بذلك ركناً أساسياً من مقومات قوتها الإقليمية، في ظل عدم تمتعها بأي سواحل أو موانئ كمنفذ لها إلى البحار والمحيطات.

هذه العوامل شكلت لإثيوبيا معضلة جغرافية تتناقض مع رؤيتها وطموحاتها الإستراتيجية كقوة إقليمية، الأمر الذي فرض عليها السعي المستمر للحصول على ذلك المنفذ البحري، فحاولت في هذا الإطار عقد إتفاقات مع  الدول الإقليمية التي لديها موانئ بحرية، فسعت إلى إريتريا لاستخدام ميناء عصب، وكذلك السودان لاستخدام ميناء بورسودان، وكينيا لاستخدام مينائي مومباسا ولامو، لكن هذه المساعي في مجملها لم تكلل بالنجاح.

كانت جيبوتي بعد ذلك هي البديل الأقرب لإثيوبيا التي سعت منذ خمس سنوات للاستحواذ على حصة في مينائها والدخول في شراكات استثمارية فيه، ودعمت هذا التوجه بإنشاء خط السكك الحديدية من أديس أبابا إلى ميناء جيبوتي بحيث يتيح لها نقل تجارتها ونقلياتها من وإلى البحر الأحمر والمحيط الهندي والتواصل مع خطوط التجارة البحرية العالمية في حدود زمن 12 ساعة.

هذا الخط تم إنشاؤه بواسطة مجموعة سكك حديد الصين وشركة البناء والهندسة المدنية الصينية، وقام بتمويله بنك التصدير والاستيراد الصيني، وبنك الصين للتنمية، والبنك الصناعي والتجاري الصيني بقيمة 4 مليارات دولار، في إطار استراتيجية الحزام والطريق الصينية للدخول والنفاذ إلى شرق أفريقيا.

وتأتي هذه المشروعات أيضاً في إطار شراكة إثيوبيا مع الصين للتوجه نحو وضع إقتصادي جديد يفضي إلى تحويل إثيوبيا إلى مركز إنتاجي وصناعي إقليمي، يخدمه أكثر من عشرة موانئ برية داخلية مخطط زيادتها إلى الأربعين، مما يعزز دورها وموقعها كمركز لوجيستي في شرق أفريقيا تمتد منه سلاسل الإمداد من مصانعها إلى الأسواق في الدول الإقليمية المحيطة، ومن ثم فارتباط شبكة النقل الإثيوبية بمنفذ بحري سيكفل لها تنفيذ مخططاتها.

تهديدات مقاتلو قوات دفاع تيجراي

التطورات السياسية في تلك المنطقة غير المستقرة فرضت العديد من المخاوف على إثيوبيا، وكان أبرزها التهديدات التي أطلقها مقاتلو قوات دفاع تيجراي خلال الإحتراب الداخلي الإثيوبي الأخير بقطع الطريق الرئيسي الواقع في إقليم عفر والواصل بين العاصمة أديس أبابا وميناء جيبوتي الذي يربط إثيوبيا بالعالم الخارجي.

وعليه أدركت إثيوبيا أن الاعتماد على هذا الطريق يضعها في موقف التهديد، ولاسيما أن أكثر من 90% من تجارتها الخارجية تمر من خلاله، كما أن جيبوتي يتواجد بها العديد من القواعد العسكرية البحرية للعديد من القوى الدولية التي قد يكون لها رؤية مختلفة عن الرؤية الإثيوبية في بعض القضايا مما قد يعرض إثيوبيا لضغوط دولية قد لا تستطيع مواجهتها.

الصومال ليس فقط مربع واحد على رقعة الشطرنج

من أجل كل ماسبق كان لابد لإثيوبيا من البحث عن طرق إستراتيجية بديلة لميناء جيبوتي تضمن لها الوصول الآمن إلى ساحل البحر وتحقيق أهدافها العسكرية والسياسية والإقتصادية، وبإسلوب التحرك على رقعة الشطرنج توجهت إثيوبيا إلى المربعات الخالية وشبه الخالية في تلك المنطقة الحساسة من القرن الإفريقي وخليج عدن، فوقع اختيارها على الصومال.

فالصومال ليس فقط مربع واحد على رقعة الشطرنج بل هو عدة مربعات كبرى بموقع استراتيجي وامكانات وموارد هائلة في منطقة شديدة الحساسية من العالم، وللأسف فهو يشهد في الوقت الراهن مخاطر كبرى تتعلق بتفكيكه وانفصال أجزائه في ظل صعوبات تواجهها الحكومة المركزية في مقديشيو للحفاظ على سيادتها على كامل أنحاء البلاد.

ففي الجنوب والوسط حيث الصراع بين القبائل على الأراضي والنفوذ، شهدت تلك المنطقة صراعاً ضارياً بين تحالف أمراء الحرب وبين إتحاد المحاكم الإسلامية الذي حسمه لصالحه، ووقع اتفاق مبادئ ومهادنة مع الحكومة المركزية.

وفي الشمال الشرقي قامت إدارة ذاتية للإقليم تسمى إدارة أرض البونت أو بونت لاند، وهي لم تعلن الإنفصال بل تعهدت بتسيير الأمور لحين انتهاء الإحتراب الداخلي وعودة السلطة المركزية للصومال.

أما في شمال غرب الصومال فقد تشكلت إدارة ذاتية مستقلة صراحة بمنأى عن الحكومة المركزية في مقديشيو، وقامت بتنظيم استفتاء وانتخابات بحضور مراقبين من الاتحاد الأوروبي، وأسمت نفسها جمهورية أرض الصومال وأعلنت انفصالها منذ 1991 وأسست حكومة وبرلمان وقوات للجيش، كما أصدرت جوازات سفر لسكانها، وبرغم ذلك لم يتم الاعتراف بها من أي دولة.

لكل الاعتبارات السابقة فقد اتجهت أنظار الحكومة الإثيوبية إليها كي تتخذها شريكاً لها في مسعاها لفتح منفذها البحري وإقامة مينائها وقاعدتها البحرية، فأعلنت عن توقيع مذكرة تفاهم مع مايسمى بجمهورية أرض الصومال تتيح لإثيوبيا منفذ بحري بطول 20كم واستخدام ميناء بربرة على الساحل الجنوبى لخليج عدن لمدة 50 عاماً، مع تطوير الطريق البري لممر بربرة بطول 260 كيلومتر ليصل بين بربرة والحدود الإثيوبية.

وفي المقابل تتعهد إثيوبيا بالاعتراف رسمياً بجمهورية أرض الصومال كدولة مستقلة “فى الوقت المناسب”، مع مساعدتها إقتصادياً وعسكرياً وأمنياً.

الرياح قد أتت بما لا تشتهيه السفن !

لكن يبدو أن الرياح قد أتت بما لا تشتهيه السفن، فلم تمر عدة ساعات على الإعلان عن المذكرة حتى صدرت احتجاجات شديدة اللهجة من الرئيس الصومالي ورئيس الوزراء باعتبار ماتم هو اتفاق غير قانوني وانتهاك إثيوبي لسيادة الصومال وسلامة أراضيه، وعزم الحكومة الصومالية على اتخاذ كل مايلزم لحماية البلاد، وحتى حركة الشباب الصومالية المتطرفة أدانت مذكرة الإتفاق واعتبرتها جزء من أجندة آبيي أحمد التوسعية.

إقليمياً ومع تنفيذ ماجاء في مذكرة التفاهم يتوقع تحول نسبة تصل إلى 40% من التجارة الخارجية الإثيوبية من ميناء جيبوتي إلى ميناء بربرة، وهو مايقلل من اعتماد إثيوبيا على جيبوتي ويجعلها أقل عرضة للضغوط السياسية والاقتصادية من جانبها، أما إريتريا فيبدو أن حكومتها باتت تعيد حساباتها باعتبارها قد أضاعت فرص اتفاق مع إثيوبيا كان من الممكن أن يدرّ عليها إيرادات كبرى من التجارة الخارجية الإثيوبية عبر ميناء عصب.

ردود الفعل على الحدث جاءت مابين معترض ومتحفظ ومراقب ومتربص، والسؤال الذي يطرح نفسه هل ستنجح التوجهات الإثيوبية في تحقيق أهدافها رغم الطريق الوعر الذي سلكته عبر منطقة حساسة متخمة بالقلاقل والتوترات السياسية ؟! هذا ما سيتبين من قادم الأيام.